ربما يرتبط شهر رمضان والصوم لدى الكثيرين بانخفاض الانتاجية وتناقص ساعات العمل والتهرب من المسئوليات الوظيفية ، ولكن حتى وإن صدقت هذه الفرضية بحق صغار الموظفين فإن الأمر في سوق المال والاستثمار يختلف تماماً.
فرمضان هو شهر التقوى وهو أيضا شهر الأرباح وذلك حسب الدراسة التي أعدها باحثون بجامعة نيو هامبشير الأمريكية والتي أشرف عليها البروفيسور أحمد اعتباري وجاءت الدراسة بعنوان “التقوى والأرباح : ازدهار سوق الأسهم خلال شهر رمضان” ، وقدمت إلى مؤتمر التمويل وحوكمة الشركات الذي انعقد في مدينة ملبورن الاسترالية هذا العام.
من خلال الدراسة التطبيقية المشار إليها تمت دراسة عوائد الأسهم خلال شهر رمضان في 14 دولة ذات أغلبية إسلامية من الفترة 1989-2007م، أظهرت النتائج أن عائدات الأوراق المالية قد ازدادت خلال شهر رمضان بما يقرب من تسعة أضعاف مثيلاتها باقي العام، مما يجعل النتائج تتفق مع الافتراض الذي قامت الدراسة على أساسه وهو أن رمضان يؤثر إيجابيا على نفسية المستثمرين، كما أنه يعزز من مشاعر التضامن والهوية الاجتماعية بين المسلمين في جميع أنحاء العالم، وهو ما يترك أثرا تفاؤليا يشمل قرارات الاستثمار.
التفاؤل والاستثمار
كثرت الدراسات السابقة التي تناولت تأثير عوامل معينة على ارتفاع عوائد الأسهم في الأسواق المالية كالطقس والمعتقدات والهوية الاجتماعية والاتزان البيولوجي، من بينها على سبيل المثال الدراسة التي قام بها هرشيلفر وشمواي عام 2003 والتي توصلا من خلالها إلى أن عوائد الأسهم اليومية ترتبط بشكل ملحوظ بأشعة الشمس، ودراسة داولنغ ولوسي عام 2005 التي أثبتت أن التغيرات الموسمية في الاتزان البيولوجي واضطرابات النوم بسبب تغيير التوقيت من صيفي إلى شتوي والعكس تؤثر على عائدات الأسهم، وأخيرا دراسة إدماس وآخرون عام 2007 التي درست العلاقة بين نتائج فرق كرة القدم الوطنية في دولة ما في المباريات الدولية وبين عوائد الأسهم.
كل هذه الدراسات ركزت على الآثار المترتبة على العواطف والمشاعر في اتخاذ قرارات الاستثمار، بينما جاءت دراسة أحمد اعتباري لتدرس العلاقة بين ممارسة الشعائر الدينية والاستثمار من خلال دراسة تأثير العبادات على نفسية المستثمرين، وسلوك السوق، وذلك خلال شهر الصوم .
انقسمت الدراسة إلى أربع أجزاء، تناول الجزء الأول منها عرض ومناقشة ما كتب حول الفوائد الصحية الناتجة عن الصيام والدليل على انتعاش الحركة السوقية خلال المناسبات الدينية ، والجزء الثاني يتناول إجراءات جمع البيانات ، بينما يناقش الجزء الثالث نتائج الدراسة ، في حين يتناول الجزء الرابع تقييما لهذه النتائج .
أشرف على إعداد الدراسة البروفيسور أحمد اعتباري أستاذ المالية ورئيس قسم المحاسبة والمالية بمدرسة ويتمور للاقتصاد بجامعة نيو هامبشير وهو من أصل إيراني، وله العديد من البحوث والدراسات، وشارك فيها كل من جيدرز بيالكوسكي الأستاذ بقسم الاقتصاد والمالية ، كلية الأعمال والاقتصاد جامعة كانتربري ، بنيوزيلندا، وتوماس ويسلنيوسكي الأستاذ بكلية الإدارة ، جامعة ليستر ، بإنجلترا ، ونال البحث جائزة أفضل بحث في مجال الاستثمار من معهد المحترفين الماليين بنيوزيلندا.
انتعاش الأسواق
الصوم في رمضان هو أحد العبادات الدينية الهامة التي تجمع 1,5 مليار مسلم حول العالم ، ليس فقط من حيث الامتناع عن الطعام والشراب بل وكذلك من حيث إصلاح الذات وعبادة الله ، وتزكية النفس وكأن الهدف النهائي من رمضان الذي أشارت إليه الآية “لعلكم تتقون” يتمثل في جعل الفرد أكثر مراعاة للاعتبارات الإنسانية ليصبح عضوا مسؤولا في المجتمع، وقد لوحظ أن المسلمين تتزايد روابطهم الاجتماعية خلال هذا الشهر حيث يجتمعون على تلاوة القرآن وصلاة التراويح ووجبات الإفطار وبذل الخير والصدقات. وكما أن كثير من أماكن العمل تقوم بتغيير وخفض عدد ساعات العمل أثناء رمضان فإن الأسواق المالية والمصارف أيضا تحرص على تغيير ساعات العمل احتراما لشهر رمضان، في الوقت نفسه تظل المحلات التجارية والأسواق تفتح أبوابها لجزء كبير من الليل. ويلاحظ انتعاش حركة الأسواق خلال ساعات المساء خاصة بعد صلاة التراويح ، ومع ارتفاع الحالة المزاجية لدى الأفراد وتحسن مستويات الصحة البدنية نتيجة الصوم يسود التفاؤل الذي من شأنه أن يؤثر على سلوك المستثمرين في الأسواق الإسلامية، وهو ما أسماه اعتباري “تأثير رمضان”.
دراسات قليلة سابقة تناولت العلاقة بين شهر رمضان وحركة الأسواق المالية منها دراسة قام بهاحسين فضل عام 1998 حول حركة الأسهم في باكستان خلال السنوات 1989-1993 والتي أثبتت ارتفاع عوائد الأسهم خلال رمضان وثباتها باقي العام، ودراسة محسن الحاج وآخرون عام 2005 حول سوق الأسهم في المملكة العربية السعودية للفترة 1985-2000 ، وتشابهت في نتائجها مع الدراسة السابقة ، وهناك دراسة ثالثة عن تركيا .
أما دراسة اعتباري فقد جاءت أكثر شمولا ، حيث شملت 14 دولة يعيش فيها ما يقرب من 695 مليون نسمة ،شملت البحرين ومصر والسعودية وأندونسيا والأردن والكويت وماليزيا والإمارات وقطر وتونس وتركيا والمغرب وعمان وباكستان، وأخذت عينات من بيانات مؤشر سوق الأوراق المالية الدولية المعروف باسم مورغان ستانلي (MSCI) ، والذي تطلب متابعة لما لا يقل عن 200 دراسة حالة من الأسواق المالية في هذه الدول على مدار العام ، بحيث يمكن تقدير نموذج قياسي للعائدات ، واسترشادا بهذه الاعتبارات ، تم الاستقرار على اختيار عينة من 129 حدث مالي في البورصات، وأظهرت النتائج أن متوسط العائدات ارتفع بصورة ملحوظة في 11 دولة خلال شهر رمضان لتصل إلى 38,09 ٪ ، بالمقارنة مع إجمالي عائدات متواضع يصل إلى 4,32 ٪ خلال الفترة المتبقية من العام.
التمويل السلوكي
يؤكد الدكتور ويسلنيوسكي أن هذا البحث يعكس اتجاها متزايدا في مجال البحوث في علم التمويل السلوكي، والذي يعني أن مشاعر المستثمرين وحالتهم المزاجية تؤثر على قراراتهم.
ويضيف أن علم التمويل قد تطور بشكل كبير خلال العقود العديدة الماضية، وقد أدرك كثير من الباحثين أن أسعار الأسهم ليست ناجمة فقط عن أرباح الشركات وأرباح الأسهم ، ولكن أيضا يتعلق جانب كبير منها بمشاعر جمهور المستثمرين ، فما نراه من فقاعات مالية في سوق الأوراق المالية والتقلبات المفرطة في أسعار الأصول يشهد على هذه الحقيقة، وبناء على ذلك ، يمكننا فهم تقلبات أسعار الأسهم بتحليل عقلية المشاركين في السوق.
واعتمادا على حركة القمر ، فإن شهر رمضان المبارك يستمر إما 29 أو 30 يوما أي ما يعادل 21-22 يوما من التداول ، وقد سجلت المؤشرات ارتفاعا طفيفا في معدلات أسعار الأسهم خلال الأيام الخمس الأولى من الشهر الفضيل، وهذا بالطبع أمر متوقع حيث يواجه الفرد في بداية الصوم اضطرابات ناشئة عن تغيير نظامه الغذائي سرعان ما يعتاد عليها وبالتالي يتحسن المزاج الانفعالي وهو ما لوحظ لدى المستثمرين في الأيام التالية من الشهر حيث ارتفعت المعدلات بنسب فائقة ثم ما بدأت في الانخفاض عقب شهر رمضان .
وفي ضوء هذه النتائج توصي الدراسة المستثمرين الباحثين عن الربح السريع بالاستفادة من الفرصة الذهبية التي يقدمها شهر رمضان حيث يمكنهم شراء الأسهم قبل بداية شهر رمضان ثم بيعها في نهاية الشهر الفضيل أو بعد عيد الفطر مباشرة للاستفادة من ارتفاع عوائد الأسهم .
التمويل الإسلامي
وفي تعليقه على نتائج هذه الدراسة يقول الدكتور محمد شريف بشير : الأستاذ بكلية الاقتصاد في جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا وعميد كلية إدارة الأعمال والعلوم الإدارية بجامعة السلطان الشريف علي الإسلامية بروناي وعضو الرابطة الاقتصادية الماليزية –في تصريحات خاصة لإسلام أون لاين- أوضحت الدراسة التي أشرف عليها الأستاذ أحمد اعتباري أن أسواق الأسهم في 14 دولة إسلامية سجلت ازدهاراً خلال شهر رمضان في الفترة 1989 – 2007م وذلك بسبب تنامي التفاؤل في شهر رمضان. ومعلوم أثر العوامل السلوكية والنفسية في حجم تداولات الأسهم والأرباح المصاحبة لها، وبشكل عام فإن الدراسة تسلط الضوء مجدداً على أثر الدين وعلى وجه الخصوص التعاليم الإسلامية على القرارات الاستثمارية والاقتصادية، وهذا النوع من الدراسات التحليلية ليس جديداً، ولكنه يقابل بعدم الاكتراث والتقليل من أهميته من قبل الماديين الذين لا يؤمنون بدور القيم والمعتقدات الدينية.
ويضيف الدكتور بشير أن هذه الدراسة كانت ستصبح أكثر نفعاً وأنصع دليلاً إذا ما كشفت لنا عن دور شهر رمضان في التأثير على حجم التداولات وعائد الأرباح لصالح الأسهم والمنتجات الإسلامية، والتأثير الإيجابي لهذا الشهر الفضيل على قرارات المستثمرين في هذه الأسواق المالية. لقد أجريت بعض الدراسات المقارنة المهمة حول أداء الأسواق المالية التقليدية منها والإسلامية بالدول الإسلامية، وأظهرت نتائجها تقدم أداء الأسواق الإسلامية على التقليدية، وكذلك تفوق أدوات ومنتجات الاستثمار والتمويل الإسلامي على غيرها من الأدوات التقليدية، و كان الواجب إظهار هذه النتائج والاحتفاء بها ليس من جانب الرأي العام وإنما من جانب صناع السياسات المالية والاقتصادية بالبلدان الإسلامية، ولكن مزمار الحي لا يطرب.
بينما ترى سارة ولبر الأستاذ المشارك بجامعة هامشير والتي تقوم بتدريس دورة في الدراسات الإسلامية ، أن نتائج الدراسة تنبيء عن فطنة الباحثين وأكدت أن شهر رمضان هو الشهر الأكثر تعظيما بالنسبة للمسلمين ، وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن لذا فإن المسلمين يشعرون فيه بالسعادة والقرب من الله ، والدراسات تؤكد العلاقة بين السعادة والتفاؤل وتنامي حجم الاستثمارات ،مما يجعل نتائج هذه الدراسة منطقية.
من ناحية أخرى سجلت دراسات أمريكية ارتفاع القوة الشرائية بين المسلمين الأميركيين خاصة بالنسبة لتجارة التمور والحلويات ، ويقدر المجلس الأمريكي للأغذية والطعام الإسلامي (IFNCA) نمو استهلاك الأغذية الحلال في السوق الأمريكية بمقدار 80% منذ عام 2005 ،وأشار المجلس في بيان له صدر مؤخرا أن هذا الاهتمام المتزايد بالمنتجات والأغذية الحلال في السوق الأمريكية يعكس القدرة الشرائية للمسلمين الأمريكيين التي تبلغ 170 مليار دورلار أمريكي.
أمل خيري